سورة النساء - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النساء)


        


{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (28)}.
التفسير:
فى هذه الآيات الثلاث التي جاءت تعقيبا على تلك الأحكام التي شرعها اللّه للمسلمين، ووضع بها الحدود لما حرّم وأحلّ من النساء، ولما أباح من التزوج بالإماء لمن عجز عن التزوج بالحرائر، وخشى العنت- في هذه الآيات الثلاث يكشف اللّه سبحانه وتعالى عن رحمته بالناس، فيما شرع لهم، وفضله عليهم فيما أباح لهم من طيبات، وفى هذا وذاك خير الناس وسعادتهم، إذا هم استقاموا على شرع اللّه، ووقفوا عند حدوده.
وقد صدّرت الآيات الثلاث بقوله سبحانه: {يُرِيدُ اللَّهُ}، وفى ذلك ما يلفت النظر، ويدعو إلى التوقف والتأمل.
فإرادة اللّه سبحانه وتعالى، نافذة، لا مردّ لها، ولا معوق لنفاذها وإمضائها على الوجه الذي أراده.
{إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [82: يس] وقد تعلقت بإرادة اللّه هنا أمور، تضمنتها الآيات الثلاث هى:
أولا: بيان الأحكام، ووضع الحدود للمسلمين بين الحلال والحرام:
{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ}.
ثانيا: أخذ المسلمين بالسنن التي أخذ اللّه بها الأمم من قبلهم، يبيّنها اللّه لهم ويهديهم إليها: {وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}.
ثالثا: التوبة على المسلمين، مما ارتكبوا من آثام وخطايا.. {وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ}.
رابعا: التوبة التي يريدها اللّه للمسلمين، يعارضها من جانب آخر، المفسدون وأصحاب الأهواء، إذ يريدون لهم الميل عن الصراط المستقيم الذي دعاهم اللّه إليه، وانحرافهم انحرافا حادا عنه. {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً} خامسا: التخفيف عن المسلمين فيما أخذهم اللّه به من أحكام، حيث أنه سبحانه وتعالى يعلم ما في الإنسان من ضعف، وما في كيانه من قوى تنزع به إلى التخفف من أوامر اللّه، والتحلل من نواهيه.. {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً}.
والسؤال هنا: ماذا عن هذه المتعلقات التي تعلقت بإرادة اللّه؟ وهل هى ماضية نافذة؟.
وهل لو كانت قد مضت ونفذت، أكان في المسلمين المخاطبين بكلمات اللّه هذه، منحرف أو ضال؟
وكيف وهذه أحكام اللّه بيّنة، وحدوده واضحة؟ وكيف وإرادته متجهة إلى هدايتهم والتوبة عليهم؟
والذي نحبّ أن نفهم عليه إرادة اللّه سبحانه وتعالى هنا، وفى غيرها من المواضع المشابهة هو الطلب غير الملزم، حتى يكون للإنسان مجال للاختيار بين الاستجابة للطلب، أو التأتّى عليه، وبهذا يشعر الإنسان بوجوده الذاتي، وبالمسئولية الملقاة عليه.. وعلى هذا يكون حسابه وجزاؤه، بالخير خيرا، وبالشر شرا.. وذلك في كل أمر للإنسان فيه إرادة وعمل.. أما حين لا يكون لما يريده اللّه متعلّق بعمل العبد، فهى إرادة مطلقة نافذة.
فالإرادة في قوله سبحانه: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}.
إرادة خالصة للّه، لا متعلّق للعباد بها، لأنها تتعلق بشرع اللّه الذي يشرعه للمسلمين، كما شرعه لعباده من قبل على يد أنبيائه ورسله.. وعلى هذا فهى إرادة نافذة.. لأنه لا متعلّق للعباد بشرع الأحكام، وإقامة حدودها.
أما الإرادة في قوله تعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً} فهى إرادة طلب، ودعوة، متجهة إلى العباد، ولهم أن يستجيبوا لهذا الطلب وأن يلبّوا تلك الدعوة، أو يتوقّفوا.
فاللّه سبحانه، قد دعا عباده إلى التوبة، في آيات كثيرة.. فقال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [31: النور] وقال سبحانه: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ} [8: التحريم].
فمطلوب من العباد أن يتقدموا إلى اللّه بالتوبة، فإذا تابوا تاب اللّه عليهم.. كما يقول سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ} [25: الشورى] ويقول جل شأنه: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى} [82: طه].
وفى الإنسان نوازع تنزع به إلى الهوى، وتدفعه إلى الخروج على الطريق المستقيم، الذي دعاه اللّه إليه.. وفى محيط الإنسان شياطين من الإنس والجن، توحى إليه بالشر، وتوسوس له بالسوء، فيلتقى ذلك مع أهوائه ونوازعه، وهنا يقع الصراع بين ما في قلبه من إيمان وتقوى، وبين هذه القوى المسلطة على إيمانه وتقواه.. فيكسب المعركة أو يخسرها، حسب بلائه فيها، وبذله لها.
وبهذا يكون النصر محسوبا له، على حين تكون الهزيمة محمولة عليه.. وفى هذا يتفاوت الناس، ويختلفون منازل ودرجات عند اللّه، كلّ حسب عمله وبلائه.
وأمّا إرادة التخفيف عن المسلمين، فيما أخذهم اللّه به من أحكام، فهى من حكمة اللّه، ورحمته، ليس لأحد أن ينازع اللّه في حكمته، أو يمسك عن عباده مواطر رحمته.. لأنه لا متعلق لأحد بهذه الإرادة، ولا مطلوب فيها لأحد.. إنها خالصة من اللّه، لعباد اللّه.
فالإرادة الإلهية، تكون تارة بمعنى الطلب، وهو أن يطلب اللّه سبحانه وتعالى من عباده أمرا، يدعوهم إلى تلبيته، والاستجابة له، لما فيه من خيرهم، وإسعادهم.. وهذا الطلب من اللّه، لا إلزام فيه، ولا قهر معه.. {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ} [29: الكهف].
وتارة تكون الإرادة الإلهية بمعنى القضاء والحكم، وتلك إرادة نافذة لا تردّ.. {سُبْحانَهُ، إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [35: مريم].. {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ} [22: التوبة].
هذا، وينبغى أن نذكر هنا، ونحن ننظر في صفات اللّه وأفعاله أنها صفات وأفعال تغاير مغايرة مطلقة كل ما يقع في تصوراتنا لها.. إنها ذات اللّه، وكما لا يمكن تصور ذات اللّه كذلك لا يمكن تصور صفاته وأفعاله! وأما ما جاء في القرآن من صفات اللّه، من سمع، وبصر، وإرادة، وعلم، وقوة، وعزة، وغيرها، وما ورد من أفعاله، كالخلق، والرزق، والإحياء، والإماتة، والتكلّم، وغيرها- فكل ذلك محمول على طبيعة مدركاتنا وتصوراتنا، وعلى مدى ما تبلغ من إدراك وتصوّر.. وإذا كان لا بد أن يكون للإله الذي نعبده مفهوم عندنا- كان لا بدّ أن يكون له عندنا متصوّر لذاته وصفاته وأفعاله.. ولكن أي متصور نتصوره فاللّه سبحانه وتعالى وصفاته وأفعاله على خلافه.. فنحن نتصور اللّه سميعا، بصيرا، عالما، حكيما، قديرا.. ولكن لا بجوارح، ولا بأجهزة يعمل كل جهاز منها في محيطه.
ونتصور اللّه سبحانه وتعالى، يخلق، ويرزق، ويتكلم، ويحيى، ويميت، ولكن لا يمكن تصوّر كنه هذه العمليات التي تتم بها أفعاله تلك، ولا الوجوه للّه تكون عليها، ولو وقع ذلك وأمكن، لكان اللّه محدودا يمكن ضبط صورة لذاته وصفاته وأفعاله، وتعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.


{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30)}.
التفسير:
هذه دعوة من اللّه إلى عباده، ومطلوب من مطلوباته إليهم، بل قل إرادة يريدها اللّه منهم.. وتلك الإرادة، هى ألا يأكلوا أموالهم بينهم بالباطل!.
وإذ كان المال هو مبتغى الناس، ورغيبتهم، فيه يتنافسون، وله يعملون ويكدحون، ومن أجله، وفى سبيله تتصادم رغباتهم، ويقع الشرّ والعدوان بينهم، فيبغى بعضهم على بعض، ويغمط بعضهم حقّ بعض، في صور وأشكال مختلفة.. من السرقة والاغتصاب، والاحتيال، والغش والخداع، والاحتكار، إلى غير ذلك مما هو واقع في معترك الحياة بين الناس- إذ كان ذلك كذلك فقد كثرت وصايا الإسلام إلى الناس في المال وفى رسم الحدود التي تمسك به في دائرة النفع العام والخاص، ليؤدى وظيفته كنعمة من أجلّ النعم التي أنعم اللّه بها على عباده.
ولم تقف نظرة الإسلام إلى المال عند أفق واحد.. بل امتدت نظرته إليه فشملت جميع الآفاق التي يكون للمال مكان فيها.. في كسب المال وفى إنفاقه.. في يد من يملك ومن لا يملك.. في الميراث والورثة.. في ملك اليتامى والسفهاء، وفى يد الأولياء والأوصياء عليهم.. إلى غير ذلك من الوجوه التي يرى فيها المال واقعا في يد فرد أو جماعة.
وفى قوله تعالى: {لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ} إشارة إلى أن المال مائدة ممدودة من اللّه سبحانه لعباده، يأكلون منها، وأن لكل إنسان حظّه من هذا المال، وأن من وقع إلى يده قدر منه على حين خلت أيدى الجماعة التي حوله، أو قصرت عن أن تنال شيئا منه، كان واجبا عليه أن يعطى مما في يده لمن حوله، إذ من غير المستساغ أن يأكل والناس المشتركون معه على المائدة، لا يأكلون.
وفى كلمة {أموالكم} المضافة إلى المؤمنين جميعا، وكلمة {بينكم} الظرف المكانىّ الجامع لهم جميعا في هذا ما يشير إلى وحدة الملكية للمال، ووحدة الاجتماع في المكان.. وفى هذا وذاك ما يجعل الوحدة الشعورية بالتكافل بين هذه الجماعة، أمرا واجبا، إن لم تقض به شريعة السماء، ولم يدع إليه دين اللّه، قضت به المروءة، ودعت إليه!.
وهذا هو البرّ الذي دعا إليه القرآن.. فقال تعالى: {لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [92: آل عمران].. وقال سبحانه: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ} [177: البقرة] ومن تدبير القرآن الكريم في هذا، أنه لم يجعل هذه المائدة المشاعة بين الناس قائمة على قانون مادىّ قهرى، إذ لا سبيل إلى قانون يحمى بنصوصه ومواده، العدوان والبغي، وتسلط الأقوياء على الضعفاء، وإلا كان عليه أن يقيم وازعا من سلطانه على رأس كل إنسان.. يمسك بيده، ويدفع بغيه وعدوانه، وذلك أمر محال، وإنما جعل الإسلام ذلك إلى مشاعر الجماعة ووجدانها، بما أيقظ فيها من نوازع الخير، ودوافع الإحسان، وبما غذّاها به من فضله وإحسانه، وبما وعدها من حسن المثوبة، وعظيم الجزاء، في الدنيا، وفى الآخرة جميعا.. {وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} {وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [39: الروم].
فتلك المشاعر الحيّة، وهذه الوجدانات المتفتحة لرحمة اللّه، الراغبة في حسن الجزاء عنده، هى الحارس الذي لا يغفل، وهى الوازع الذي يقوم حجازا بين ظلم الناس للناس، وبغى الناس على الناس.
وقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ} هو استثناء متصل، وليس استثناء منفصلا كما ذهب إلى ذلك الزمخشري، وأكثر المفسّرين.
فالتجارة: هى من تلك المائدة الممدودة بين الناس {أموالكم}، بل هى الوجه الواضح من هذه المائدة، إذ كانت أكثر الأموال دائرة في فلك التجارة، متداولة بين أيدى الناس عن طريقها.
وفى عمليات التجارة، ربح وخسارة.
وفى جانب الربح قد يحصل كثير من الناس على أموال طائلة..!
وهذه الأموال التي ربحها الرابحون هى خسارة قد خسرها آخرون! والصورة في جانب الرّبح تبدو وكأنها أكل لأموال الناس بالباطل، ذلك الأكل الذي ورد صدر الآية الكريمة بالنهى عنه! فهل هذا المال- مال الربح في التجارة أيا كان من الكثرة- هل هو داخل في هذا المال المنهي عن أكله بالباطل؟ وهل يتناوله الحكم الواقع عليه؟
هذا ما استثناه اللّه تعالى في قوله: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ}.
فهذا المال ليس من الباطل في شىء.. هو مال حلال، إذ جاء عن عمليات بيع وشراء، لا قهر فيها، ولا تدليس أو غشّ، بين البائعين والمشترين.
وفى قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً} دعوة إلى صيانة الأنفس وحفظها، بعد الدعوة إلى صيانة الأموال وحفظها.
وقدمت الدعوة إلى صيانة المال على الدعوة إلى صيانة الأنفس، لأن المال هو قوام الحياة للأنفس، ولا حياة لها بغيره، فكانت صيانته مقدمة على صيانتها! ويقع قتل النفس على صور كثيرة.
فقد يقتل الإنسان نفسه بنفسه.
وذلك بأن يعرضها للتهلكة عن عمد في غير إحقاق حق أو إبطال باطل.
أو بأن يصرفها عن الإيمان إلى الكفر. ويحارب اللّه ورسوله والمؤمنين.
أو بأن يعتدى على حرمات الغير، ويستبيح أموالهم ويأكلها بالباطل، أو يستبيح دماءهم، ويزهق أرواحهم بغير حق.
فكل هذه من بعض الوجوه التي يقتل بها الإنسان نفسه.
وقد توعّد اللّه سبحانه من يرتكب هذا الفعل المنكر بالعذاب الأليم في قوله سبحانه: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} فما جزاء هذا العدوان وذلك الظلم إلا هذا العقاب الأليم، فإن من لا يرحم نفسه، ولا يرحم الناس، لا تناله رحمة اللّه، الذي أطمعنا في رحمته، وبسط لنا يده بها.. {إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً}.


{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (31)}.
التفسير:
هذا تعقيب على مطلوبات اللّه من عباده، وما دعاهم إليه أو نهاهم عنه في الآيات السابقة، في شأن اليتامى، والنساء، وفى حفظ الأموال والدماء.
وفى هذا التعقيب رحمة واسعة من رحمات اللّه بالناس، وفضل كبير من أفضاله على عباده.. ففى النّاس ضعف يعلمه اللّه الذي خلقهم، وقليل منهم أولئك الذين يستقيم خطوهم على طريق اللّه استقامة كاملة، لا يضطرب فيها خطوه، أو تزل فيها قدمه! ولو يأخذ اللّه النّاس على كلّ انحرافة ينحرفونها، أو زلة يزلّونها لما نجا منهم أحد، ولا دخل عند اللّه مداخل الإحسان والرضوان.. إنسان.
وقد جاء هذا التعقيب الكريم، من ربّ كريم، ليفتح لعباده أبواب إحسانه ورضوانه، فيدخلوا في سعة من رحمته ورضوانه، إذا هم اجتنبوا الكبائر، وعصموا أنفسهم منها، وخافوا اللّه فيها.
والكبائر أولها الكفر باللّه، والشرك به.
ثم يتبع ذلك أعمال الجوارح، كالقتل، والزنا، وشرب الخمر.
فإذا تجنب العبد هذه الكبائر، ثم كانت منه زلة أو سقطة فيما وراءها، كانت رحمة اللّه قريبة منه، تمحو ما ارتكب من صغائر، بما اجتنب من كبائر! وهذا ما يشير إليه قوله تعالى بعد ذلك: {نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً}.
وهذا ما أشار إليه سبحانه في قوله: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [32: النجم] فما أوسع رحمة اللّه وما أعظم فضله.

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10